قصة كفاح شعب مصر
(1) الفصل السابع هزيمة وبعث جديد
هزيمة ... وبعث جديد
بدأت الثورة العرابية ، باجتماع ضباط الجيش في منزل «أحمد عرابي» وأقسموا على الجهاد لتحرير مصر مما لحق بها على يد الخديوي ، وجرت الأحداث سريعا ، وقام الجيش كله بعرض عام في ساحة عابدين في التاسع من سبتمبر عام ١٨٨١م، وفيه عرض عرابي طلبات الجيش والشعب ، فرد الخديوي قائلا : «لا حق لكم في هذه المطالب ، لقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم الا عبيد إحساننا».
فرد عرابي رده التاريخي المعروف : لقد خلقنا الله أحرارا ، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا ، والله الذي لا إله غيره، إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم .
اتفق الخديوي مع الإنجليز على أن يروا أمرا لدخول مصر ، وتعهد لهم أن يساعدهم ، تعهدوا له أن يحموا عرشه ، وسافر الخديوي إلى قصر رأس التين ، ليكون في حماية الأسطول الإنجليزي الذي دخل ميناء الإسكندرية، وقامت الفتن في البلاد ، وضرب الأسطول الإنجليزي في الإسكندرية ، واضطر عرابي إلى الدخول في الحرب ضد الإنجليز الذين انحاز إليهم الخديوي.
ووقف الشعب المصري بكل ما يملك بجانب الجيش وقائده العظيم "عرابي" ، ووقعت النكسة الكبرى بوصول الجيش الإنجليزي إلى القاهرة عن طريق العباسية ثم القلعة التي سلمها لهم خنفس قائد حاميتها .
لقد جهل الإنجليز الحقيقة الواضحة التي سجلها « ماسبيرو» المؤرخ الكبير قائلا :
"إن هذه الأمة المصرية العتيقة (الاصيله)، دون سائر الأمم والشعوب ، تدل طبائع أبنائها (اخلاقهم)، كما تدل آثارها على البقاء والخلود ، فكم من مرة اجتاحها الغاصبون الأقوياء (المحتلون)، وظنوا أنهم حولوا أرضها رمادا تذروه الرياح ، وظنوا أنهم قلبوا مدنها وقراها أنقاضا (بقايا الهدم) فوق سكانها ، فإذا بأولئك السكان ينفضون عنهم ما ظنه الغاصبون فناء (الصمت)، ويبعثون من تحت الأنقاض ليعيدوا البناء والكفاح من جديد".
لقد جهل الإنجليز هذه الحقيقة التاريخية وسخروا بها ، حتى لاح بين هذا الظلام نجم جديد ، يدعو لبعث حديد .
وأي نجم غير مصطفى كامل ؟ هذا الشاب الذي صمم على أن يجعل حياته كلها جهادا في سبيل بلاده ، وأن يكون المحامي الأول عن قضية وطنه العزيز .
لقد رأي مصطفى كامل أن يبدأ جهاده بوسيلتين: الأولى تقوم على بعث الحركة الوطنية في الداخل ، لتوحيد الجهود ضد المستعمرين ، ومحاربة استسلام الوزراء والحكام وكبار الموظفين
المصريين لسلطات الاحتلال ، والوسيلة الثانية الدعاية للقضية المصرية في أوربة حتى يفهم العالم كله أن في مصر شعبا حرا صمم على أن يسترد حريته واستقلاله .
وكان بجانب هاتين الوسيلتين يبث في الشعب المصري الوطنية الصادقة الصحيحة والشهامة والشجاعة والإقدام ويدعوه إلى حب المجد والرفعة ومسابقة الأمم في مضمار التقدم والرقي ، لأنه كان يرى أنه إذا تمكنت هذه المشاعر وتلك الصفات من كل مصري ، ظهرت معالم الهمة والإقدام والتضامن بين مختلف الطبقات والهيئات ، واتحدت الأمة المصرية في أهدافها وغاياتها ، وقضت على دعاة التفريق، والخصام، وأصبحت أمام المستعمر كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
بدأ مصطفى كامل يتصل بالصحف المصرية. ينشر فيها المقالات الوطنية. ليلهب حماسة الشعب ويحرك غيرته ويثير وطنيته . وكان يخطب في الأندية يحث مواطنيه على الكفاح والجهاد وما ترك مناسبة إلا وقف يطعن في سياسة بريطانيا ، داعيا أمته إلى التمسك بحريتها وحقوقها كاملة .
ولينشر دعوته الوطنية في نفوس الشعب أصدر صحيفة اللواء التي أصبحت شبه مدرسة تعلم المصرين حقوقهم وواجباتهم ، وكان يهتم فيها ببعث الروح الوطنية واتحاد عنصري الأمة، وكشف مساوئ الاحتلال والاستعمار ومحاربة اليأس والاستسلام، والدعوة إلى التمسك بحقوق البلاد . وكان شعاره في ذلك : « إن من يتسامح في حقوق بلاده ، ولو مرة واحدة ، يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة » .
ولم يقتصر مصطفى كامل على نشر دعوته في مصر، بل رأي بحكمته أن أقوى سلاح في جهاده هو الدعاية للقضة المصرية في أوربة فذهب إلى فرنسا ، وهناك أخرج نداء: في صورة رمزية تمثل مصر تحت قيود الاحتلال البريطاني ، وهي تستغيث بأحرار فرنسا ، ليساعدوها على تحريرها واستقلالها .
طبع مصطفى كامل من هذا النداء مئات الآلاف من النسخ ووزعها على النواب والكتاب والمفكرين والصحفيين في نواحي فرنسا وفي أرجاء العالم كله ، فكان لهذا العمل أثر كبير في تنبيه أذهان أوربة، إلى عدالة القضية المصرية وحق المصرين في الحياة الحرة الكريمة .
وبينما كان مصطفى كامل يدعو للقضية الوطنية في فرنسا وقعت في مصر حادثة دنشواي. لقد كان بعض الضباط البريطانيين يصطادون الحمام بالقرب من بلدة دنشواي بالمنوفية ، فأصابت رصاصة أحدهم فلاحة مصرية، واشتعلت النار في أجران القمح ، فطارد أهل دنشواي الضباط الإنجليز في بلدتهم فولوا هاربين. وفي الطريق الزراعي تعرض أحد هؤلاء الضباط لأشعة الشمس المحرقة ، فأصابته ضربة الشمس فمات .
عندئذ ثارت ثائرة الإنجليز وشكلت محكمة عسكرية ، وبعد محاكمات وهمية لا عدل فيها ولا منطق حكمت بإعدام أربعة من الأهالي شنقا وبالسجن والجلد على آخرين .
وفي مكان الحادث نصبت المشانق ، وجيء بآلات الجلد والتعذيب ، ونفذت الأحكام أمام أقارب المحكوم عليهم في عنف زائد وقسوة بالغة .
وعندما علم مصطفى كامل وهو في باريس بهذا الحادث الأليم، استغل الحادث ونهض على الرغم من مرضه يبين للعالم كله ظلم الاحتلال والاستعمار وتتابعت مقالاته في الصحف قائلا : «جئت اليوم أسأل الأمة الإنجليزية نفسها والعالم المتمدين : هل يجوز إغفال مبادئ العدل والإنسانية إلى هذا الحد ؟
جئت أسأل الإنجليز الغيرة على سمعة بلادهم وكرامتها ، وأن يقولوا لنا إذا كانوا يرون بسط النفوذ الأدبي والمادي لإنجلترا على مصر بالظلم وصنوف الهمجية .
جئت أسأل الذين يجاهرون في كل آن بحق الإنسانية، مالئين الدنيا بعبارات السخط ، إذا حدثت فظائع في بلاد أخرى دون فظيعة دنشواي ألف مرة أن يثبتوا صدقهم وإخلاصهم بالاحتجاج بكل قوة وشدة على هذا العمل المنكر الذي يدين إلى الأبد تلك المدنية الأوروبية في أعين العالم كافة .
جئت أسأل الأمة الإنجليزية إذا كان يليق بها أن تترك الممثلين لها في مصر يعمدون بعد احتلال دام أربعة وعشرين عاما إلى قوانين استثنائية ووسائل همجية بل ، وأكثر من همجية - ليحكموا مصر ويعلموا المصريين ماهية كرامة الإنسان »
ثم استطرد يقول : يحق للمصريين أن يطلبوا تحققا دقيقا كاملا في المسألة ، وإن مصر على بعد يومين من أوربة. فليأت إليها الإنجليز المحبون للعدل والراغبون في إعلاء الشرف البريطاني ، وليذهبوا إلى المدائن والقرى وليروا بأعينهم ، أن الشعب المصري ليس متعصبا أبدا ، ولكنه شعب كريم أبي ينشد العدل والمساواة ويطلب أن يعامل كشعب حر لا كقطيع من الأغنام. وأنه يعمل بكل عزيز لديه لتحقيق هذا المطلب الأسمى مطلب الحرية والاستقلال .
أجل، إن الشعب المصري شاعر الآن بكرامته ، وذلك أمر لا يمكن إنكاره بأية حال ، إنه يطلب معاملة أبنائه أسوة بالأجانب ، وهو طلب عدل وغير مبالغ فيه أيضا .
إننا نطالب بالعدل والمساواة والحرية نطلب دستورا ينقذنا من السلطة المطلقة، ولا شك أنه لا يمكن للعالم المتمدين وللرجال المحبين للحرية والعدل في إنجلترا إلا أن يكونوا معنا ويطلبوا مثلنا ألا تكون مصر - تلك التي وهبت للعالم أجمل وأرقى مدنية - أرضا تمرح الهمجية فيها ، بل بلادا تستطيع المدنية والعدالة أن تبلغا فيها من الخصب والنماء مبلغ خصب أرضها المباركة» .
ودوّت المقالة في أوربة دويا عظيما . وتناقلتها الصحف في مختلف أرجاء العالم بالتعليق النزيه وكان لبلاغتها وعبارتها القوية المؤثرة ، الصادرة من زعيم الحركة الوطنية تأثير كبير في الرأي العام الأوربي ، الأمر الذي جعل صحيفة « التربيون الإنجليزية» تنادي بوجوب منح مصر استقلالها الذاتي.
وكتبت مجلة «المجلات» الإنجليزية مقالة تذكر الإنجليز فيها بوعودهم بالجلاء عن مصر . وأخدت الصحف العالمية الأخرى تنشر المقالات الطويلة عن مصر ومكانتها في المجتمع الدولي .
وكان لهذه المقالة صدى في البرلمان البريطاني ، إذ قام بعض الثواب الأحرار يلقون على اللورد كرومر تبعة حادثة دنشواي ويستنكرون فعلته .
وتوجه مصطفى كامل بعد ذلك إلى لندن نفسها، وراح يواصل جهاده هناك رافعا صوت مصر عاليا ، شارحا لرجال السياسة وقادة الفكر وجهة النظر المصرية في منطق سليم وحجة قوية .
وأدركت الحكومة البريطانية أن سياستها في مصر تحتاج إلى تبديل وتعديل، وألقيت مسئولية حادثة دنشواي على شخصيه اللورد كرومر، ورأت بريطانيا إقصاءه عن منصبه إنقاذا لسمعتها أمام العالم المتمدين وتخفيفا لهياج الشعور الوطني في مصر .
وكان استعفاء اللورد كرومر انتصارا كبيرا للحركة الوطنية ، فقد تولى منصبه في مصر مدة أربعة وعشرين عاما كان في خلالها الحاكم المطلق لمصر ، فلا شك أن إقصاءه عن السلطة بعد المدة الطويلة هو اعتراف بقوة الحركة الوطنية .
وقف «محمد فريد» في أوربة راسخا كالجبال ، ينفق من ذات يده قبل أن يخطب أو يكتب ، كان يطير إلى المؤتمرات الأوربية لا يفوته منها مؤتمر ، ولا يترك منها اجتماعا ، رافعا صوت مصر ، ومناديا باستقلالها ، يعينه ماله ، وتسعفه ثروته، دون أن يطلب من قومه عونا .
وظل يدعو لاستقلال بلاده ، ويثير في قومه الحماسة والوطنية حتى نفدت أمواله وعاش في أواخر أيامه مريضا فقيرا ثم أسلم الروح بعيدا عن دياره .
وكان لجهاد هذين الزعيمين : مصطفى كامل ، ومحمد فريد أثر كبير في ازدياد الوعي القومي ، حتى أصبح الشعب دائم المطالبة بحقوقه ، وعلى استعداد لمقاومة الاحتلال وبذل التضحيات ، عند سنوح أية فرصة . وقد سنحت تلك الفرصة في ثورة 1919 م.
(1) الفصل السابع هزيمة وبعث جديد
هزيمة ... وبعث جديد
بدأت الثورة العرابية ، باجتماع ضباط الجيش في منزل «أحمد عرابي» وأقسموا على الجهاد لتحرير مصر مما لحق بها على يد الخديوي ، وجرت الأحداث سريعا ، وقام الجيش كله بعرض عام في ساحة عابدين في التاسع من سبتمبر عام ١٨٨١م، وفيه عرض عرابي طلبات الجيش والشعب ، فرد الخديوي قائلا : «لا حق لكم في هذه المطالب ، لقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم الا عبيد إحساننا».
فرد عرابي رده التاريخي المعروف : لقد خلقنا الله أحرارا ، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا ، والله الذي لا إله غيره، إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم .
اتفق الخديوي مع الإنجليز على أن يروا أمرا لدخول مصر ، وتعهد لهم أن يساعدهم ، تعهدوا له أن يحموا عرشه ، وسافر الخديوي إلى قصر رأس التين ، ليكون في حماية الأسطول الإنجليزي الذي دخل ميناء الإسكندرية، وقامت الفتن في البلاد ، وضرب الأسطول الإنجليزي في الإسكندرية ، واضطر عرابي إلى الدخول في الحرب ضد الإنجليز الذين انحاز إليهم الخديوي.
ووقف الشعب المصري بكل ما يملك بجانب الجيش وقائده العظيم "عرابي" ، ووقعت النكسة الكبرى بوصول الجيش الإنجليزي إلى القاهرة عن طريق العباسية ثم القلعة التي سلمها لهم خنفس قائد حاميتها .
لقد جهل الإنجليز الحقيقة الواضحة التي سجلها « ماسبيرو» المؤرخ الكبير قائلا :
"إن هذه الأمة المصرية العتيقة (الاصيله)، دون سائر الأمم والشعوب ، تدل طبائع أبنائها (اخلاقهم)، كما تدل آثارها على البقاء والخلود ، فكم من مرة اجتاحها الغاصبون الأقوياء (المحتلون)، وظنوا أنهم حولوا أرضها رمادا تذروه الرياح ، وظنوا أنهم قلبوا مدنها وقراها أنقاضا (بقايا الهدم) فوق سكانها ، فإذا بأولئك السكان ينفضون عنهم ما ظنه الغاصبون فناء (الصمت)، ويبعثون من تحت الأنقاض ليعيدوا البناء والكفاح من جديد".
لقد جهل الإنجليز هذه الحقيقة التاريخية وسخروا بها ، حتى لاح بين هذا الظلام نجم جديد ، يدعو لبعث حديد .
وأي نجم غير مصطفى كامل ؟ هذا الشاب الذي صمم على أن يجعل حياته كلها جهادا في سبيل بلاده ، وأن يكون المحامي الأول عن قضية وطنه العزيز .
لقد رأي مصطفى كامل أن يبدأ جهاده بوسيلتين: الأولى تقوم على بعث الحركة الوطنية في الداخل ، لتوحيد الجهود ضد المستعمرين ، ومحاربة استسلام الوزراء والحكام وكبار الموظفين
المصريين لسلطات الاحتلال ، والوسيلة الثانية الدعاية للقضية المصرية في أوربة حتى يفهم العالم كله أن في مصر شعبا حرا صمم على أن يسترد حريته واستقلاله .
وكان بجانب هاتين الوسيلتين يبث في الشعب المصري الوطنية الصادقة الصحيحة والشهامة والشجاعة والإقدام ويدعوه إلى حب المجد والرفعة ومسابقة الأمم في مضمار التقدم والرقي ، لأنه كان يرى أنه إذا تمكنت هذه المشاعر وتلك الصفات من كل مصري ، ظهرت معالم الهمة والإقدام والتضامن بين مختلف الطبقات والهيئات ، واتحدت الأمة المصرية في أهدافها وغاياتها ، وقضت على دعاة التفريق، والخصام، وأصبحت أمام المستعمر كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
بدأ مصطفى كامل يتصل بالصحف المصرية. ينشر فيها المقالات الوطنية. ليلهب حماسة الشعب ويحرك غيرته ويثير وطنيته . وكان يخطب في الأندية يحث مواطنيه على الكفاح والجهاد وما ترك مناسبة إلا وقف يطعن في سياسة بريطانيا ، داعيا أمته إلى التمسك بحريتها وحقوقها كاملة .
ولينشر دعوته الوطنية في نفوس الشعب أصدر صحيفة اللواء التي أصبحت شبه مدرسة تعلم المصرين حقوقهم وواجباتهم ، وكان يهتم فيها ببعث الروح الوطنية واتحاد عنصري الأمة، وكشف مساوئ الاحتلال والاستعمار ومحاربة اليأس والاستسلام، والدعوة إلى التمسك بحقوق البلاد . وكان شعاره في ذلك : « إن من يتسامح في حقوق بلاده ، ولو مرة واحدة ، يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة » .
ولم يقتصر مصطفى كامل على نشر دعوته في مصر، بل رأي بحكمته أن أقوى سلاح في جهاده هو الدعاية للقضة المصرية في أوربة فذهب إلى فرنسا ، وهناك أخرج نداء: في صورة رمزية تمثل مصر تحت قيود الاحتلال البريطاني ، وهي تستغيث بأحرار فرنسا ، ليساعدوها على تحريرها واستقلالها .
طبع مصطفى كامل من هذا النداء مئات الآلاف من النسخ ووزعها على النواب والكتاب والمفكرين والصحفيين في نواحي فرنسا وفي أرجاء العالم كله ، فكان لهذا العمل أثر كبير في تنبيه أذهان أوربة، إلى عدالة القضية المصرية وحق المصرين في الحياة الحرة الكريمة .
وبينما كان مصطفى كامل يدعو للقضية الوطنية في فرنسا وقعت في مصر حادثة دنشواي. لقد كان بعض الضباط البريطانيين يصطادون الحمام بالقرب من بلدة دنشواي بالمنوفية ، فأصابت رصاصة أحدهم فلاحة مصرية، واشتعلت النار في أجران القمح ، فطارد أهل دنشواي الضباط الإنجليز في بلدتهم فولوا هاربين. وفي الطريق الزراعي تعرض أحد هؤلاء الضباط لأشعة الشمس المحرقة ، فأصابته ضربة الشمس فمات .
عندئذ ثارت ثائرة الإنجليز وشكلت محكمة عسكرية ، وبعد محاكمات وهمية لا عدل فيها ولا منطق حكمت بإعدام أربعة من الأهالي شنقا وبالسجن والجلد على آخرين .
وفي مكان الحادث نصبت المشانق ، وجيء بآلات الجلد والتعذيب ، ونفذت الأحكام أمام أقارب المحكوم عليهم في عنف زائد وقسوة بالغة .
وعندما علم مصطفى كامل وهو في باريس بهذا الحادث الأليم، استغل الحادث ونهض على الرغم من مرضه يبين للعالم كله ظلم الاحتلال والاستعمار وتتابعت مقالاته في الصحف قائلا : «جئت اليوم أسأل الأمة الإنجليزية نفسها والعالم المتمدين : هل يجوز إغفال مبادئ العدل والإنسانية إلى هذا الحد ؟
جئت أسأل الإنجليز الغيرة على سمعة بلادهم وكرامتها ، وأن يقولوا لنا إذا كانوا يرون بسط النفوذ الأدبي والمادي لإنجلترا على مصر بالظلم وصنوف الهمجية .
جئت أسأل الذين يجاهرون في كل آن بحق الإنسانية، مالئين الدنيا بعبارات السخط ، إذا حدثت فظائع في بلاد أخرى دون فظيعة دنشواي ألف مرة أن يثبتوا صدقهم وإخلاصهم بالاحتجاج بكل قوة وشدة على هذا العمل المنكر الذي يدين إلى الأبد تلك المدنية الأوروبية في أعين العالم كافة .
جئت أسأل الأمة الإنجليزية إذا كان يليق بها أن تترك الممثلين لها في مصر يعمدون بعد احتلال دام أربعة وعشرين عاما إلى قوانين استثنائية ووسائل همجية بل ، وأكثر من همجية - ليحكموا مصر ويعلموا المصريين ماهية كرامة الإنسان »
ثم استطرد يقول : يحق للمصريين أن يطلبوا تحققا دقيقا كاملا في المسألة ، وإن مصر على بعد يومين من أوربة. فليأت إليها الإنجليز المحبون للعدل والراغبون في إعلاء الشرف البريطاني ، وليذهبوا إلى المدائن والقرى وليروا بأعينهم ، أن الشعب المصري ليس متعصبا أبدا ، ولكنه شعب كريم أبي ينشد العدل والمساواة ويطلب أن يعامل كشعب حر لا كقطيع من الأغنام. وأنه يعمل بكل عزيز لديه لتحقيق هذا المطلب الأسمى مطلب الحرية والاستقلال .
أجل، إن الشعب المصري شاعر الآن بكرامته ، وذلك أمر لا يمكن إنكاره بأية حال ، إنه يطلب معاملة أبنائه أسوة بالأجانب ، وهو طلب عدل وغير مبالغ فيه أيضا .
إننا نطالب بالعدل والمساواة والحرية نطلب دستورا ينقذنا من السلطة المطلقة، ولا شك أنه لا يمكن للعالم المتمدين وللرجال المحبين للحرية والعدل في إنجلترا إلا أن يكونوا معنا ويطلبوا مثلنا ألا تكون مصر - تلك التي وهبت للعالم أجمل وأرقى مدنية - أرضا تمرح الهمجية فيها ، بل بلادا تستطيع المدنية والعدالة أن تبلغا فيها من الخصب والنماء مبلغ خصب أرضها المباركة» .
ودوّت المقالة في أوربة دويا عظيما . وتناقلتها الصحف في مختلف أرجاء العالم بالتعليق النزيه وكان لبلاغتها وعبارتها القوية المؤثرة ، الصادرة من زعيم الحركة الوطنية تأثير كبير في الرأي العام الأوربي ، الأمر الذي جعل صحيفة « التربيون الإنجليزية» تنادي بوجوب منح مصر استقلالها الذاتي.
وكتبت مجلة «المجلات» الإنجليزية مقالة تذكر الإنجليز فيها بوعودهم بالجلاء عن مصر . وأخدت الصحف العالمية الأخرى تنشر المقالات الطويلة عن مصر ومكانتها في المجتمع الدولي .
وكان لهذه المقالة صدى في البرلمان البريطاني ، إذ قام بعض الثواب الأحرار يلقون على اللورد كرومر تبعة حادثة دنشواي ويستنكرون فعلته .
وتوجه مصطفى كامل بعد ذلك إلى لندن نفسها، وراح يواصل جهاده هناك رافعا صوت مصر عاليا ، شارحا لرجال السياسة وقادة الفكر وجهة النظر المصرية في منطق سليم وحجة قوية .
وأدركت الحكومة البريطانية أن سياستها في مصر تحتاج إلى تبديل وتعديل، وألقيت مسئولية حادثة دنشواي على شخصيه اللورد كرومر، ورأت بريطانيا إقصاءه عن منصبه إنقاذا لسمعتها أمام العالم المتمدين وتخفيفا لهياج الشعور الوطني في مصر .
وكان استعفاء اللورد كرومر انتصارا كبيرا للحركة الوطنية ، فقد تولى منصبه في مصر مدة أربعة وعشرين عاما كان في خلالها الحاكم المطلق لمصر ، فلا شك أن إقصاءه عن السلطة بعد المدة الطويلة هو اعتراف بقوة الحركة الوطنية .
وقف «محمد فريد» في أوربة راسخا كالجبال ، ينفق من ذات يده قبل أن يخطب أو يكتب ، كان يطير إلى المؤتمرات الأوربية لا يفوته منها مؤتمر ، ولا يترك منها اجتماعا ، رافعا صوت مصر ، ومناديا باستقلالها ، يعينه ماله ، وتسعفه ثروته، دون أن يطلب من قومه عونا .
وظل يدعو لاستقلال بلاده ، ويثير في قومه الحماسة والوطنية حتى نفدت أمواله وعاش في أواخر أيامه مريضا فقيرا ثم أسلم الروح بعيدا عن دياره .
وكان لجهاد هذين الزعيمين : مصطفى كامل ، ومحمد فريد أثر كبير في ازدياد الوعي القومي ، حتى أصبح الشعب دائم المطالبة بحقوقه ، وعلى استعداد لمقاومة الاحتلال وبذل التضحيات ، عند سنوح أية فرصة . وقد سنحت تلك الفرصة في ثورة 1919 م.