1ــ استهـــلال
(فضاء أسود مفتوح يوحي بخيمة سيرك مصابيح وأضواء وألوان ووجوه مرسومة لمهرجين تتدلي من فوق ستارات بيضاء شفافة تتشكل الستارات علي شكل خيمة بحجم الخشبة كلها عاكسات الضوء ترسم في الوسط حلبة دائرية مضاءة من خلف الكواليس تنبعث أصوات حياة أخري لا نراها نسمع أصوات الحيوانات، وأصوات الطيور، وأصوات فناني السيرك وعماله فجأة، يعم الصمت، وتقرع الطبول، إيذانا ببداية الحفل الفني يدخل رجل وهو في زي مروضي الأسود يصاحب دخوله بقعة ضوء متحركة ويستقبله التصفيق والهتاف وشيء من الصفير يمسك الرجل بيده سوطا، بضرب به في الهواء، وهو يدور داخل الحلبة المضاءة)
الحكواتــي: (وهو يخاطب مخلوقاته الوهمية) اصطفوا.. اصطفوا صفا واحدا.. الأطول في الخلف والقصير في الأمام .. اصطفوا قلت لكم، ألا تسمعون؟
آه، جميل. جميل جدا، والآن ارقصوا.. ارقصوا كما تشاءون، رقصا شرقيا أو غربيا لا يهم.. (موسيقي السيرك) نعم ، هكذا، ما أجملك أيتها المخلوقات الرائعة.. ارقصي يا صوري وكلماتي، ويا أحلامي وأوهامي.. جميل .. جميل جدا.. (تصفيق الجمهور الوهمي)
ردوا علي تحية الجمهور.. انحنوا بشكل جيد.. بدون مبالغة رجاء، نعم نعم، هكذا.. رائع.. رائع جدا..
(يلتفت إلي الجمهور الواقعي) عذرا.. هذا الكلام لم يكن لكم، ولكنه كان موجها لجمهوري الآخر، والذي لا أراه إلا أنا، أما أنتم، فإنني أقول لكم ما يلي، ورجاء أن تسمعوا، وأن تعوا جيدا ما سأقول لكم، انظروا إلي هذا الزي الذي لم أختره، نعم، هو زي مروضي الأسود.. (يضحك) لقد ارتديته لأنني لم أجد غيره في مخازن هذا المسرح، والذي هو الآن سيرك حتي احتفال آخر، وأعترف لكم بأنني لست مروض أسود، ولا حتي مروضة قطط أو أرانب.. (يضحك) وأكون سعيدا لو أنني أستطيع أن أكون مروض نفسي، وأن أروض هذه اللغة التي لا تسعفني دائما، وأن أروض فني الحقيقي، والذي هو فن القول الجميل وفن الحكي النبيل..
آه لو أستطيع أن أكون كما أشاء، وأن أجعل الحروف والكلمات والعبارات طيعة علي لساني، وأن أجعل الأسماء والأشياء طيعة بين يدي..
ورغم أن هذا السوط بيدي، فإنني أخافها، وحق الله إنني أخافها.. أخاف الكلمات الوحشية، وأخشي أن تفترسني الصور المرعبة، وأن تدمرني الأفكار المدمرة.. لهذا فإنني أحاول أن ألعب معها لعبة الأسود ومروض الأسود..
(من جديد يفرقع الصوت في الهواء) اصطفي أمامي أيتها الكلمات والعبارات والمشاهدات، اصطفي كما أريد، وتشكلي بالشكل الذي أشاء، وانتظمي في منظومة أقوال وأحوال، وكوني قصة وحكاية، وكوني مشهدا ورواية، كوني كما يأمر مولانا الجمال في دنيا الفن والخيال.. (يضرب بالسوط في الهواء.. تظهر في الخلف حروف تسقط من فوق، فيتعقبها الحكواتي: كما يتعقب الأطفال الفراشات) والآن، يا مخلوقاتي العجيبة، وبعد هذا الاستعراض الجميل، يمكنك أن تنصرفي، وأن تعودي من حيث جئت ..
رجاء صفقوا عليها مرة أخري .. (يتعالي التصفيق أكثر)
(للجمهور) من حقكم أن تسألوا الآن: من يكون هذا الرجل الذي يروض الخيال، والذي يشتغل بفقه الجمال، والذي يسافر بهذا الخيال إلي حدود المحال، والتي يبحث دائما عن الجلال وعن الكمال؟
هذا الرجل هو أنا، نعم، وما أنا إلا صانع بين الصناع..
صانع؟ تسألون صانع ماذا؟
صانع أحلام ومروض أحلام وتاجر أحلام وعالم أحلام في سيرك الأحلام.. (موسيقي السيرك) آه، نسيت أن أخبركم بأن هذا السيرك له اسمان: الأول هو سيرك الأحلام
والثاني؟
هو سيرك الأوهام..
وبين حد الأحلام وحد الأوهام أعيش أنا، وتعيش معي كل أسمائي ومخلوقاتي، وأكون سعيدا يا أحبتي لو أستطيع أن أقتسمها معكم، أقتسم معكم الأحلام والأوهام، وأقتسم الخيال والاحتفال..
أنا السيد الحكواتي:، وأنا فعل الحكي، وأنا كل الحكايات والروايات.. حكواتي من هذا الزمان، لقد ضاقت بي كل البنايات والساحات، ولم تسع أحلامي وأوهامي إلا هذه الخيمة الكبيرة، انظروا إليها، هي خيمة بسعة الوجود وبحجم الدنيا وبعمق الخيال اللامحدود (وهو ينصت إلي الجمهور)
آه.. تسألون.. هذا السيرك أين يقع؟
(يحك رأسه) أين يقع يا رأسي، أين يقع؟ اسعفيني يا كلماتي التي روضتها، أو خيل لي أنني روضتها..
آه.. وجدتها.. اسمعوا.. لن أقول لكم بأنه يقع في اللاموقع، وبأنه موجود في اللاوجود، وبأنه كائن في اللامكان.. كل هذا لن أقوله، ولكنني ـ مع ذلك ـ سأقول ما يشبهه..
(وهو يتأمل المكان حوله) إنني أعترف بأنه يصعب علي أن أحدد لكم حدود هذا المكان
ويصعب علي أن أعطيه اسمه ورسمه وعنوانه، وإنني أطلب منكم كلكم ـ دام فضلكم ـ أن تساعدوني، وأن تعطوا لهذا المكان الاسم الذي تريدون، وأن تمنحوه الرسم الذي تتخيلون، أما أنا، فإنه يكفيني أن أقول لكم الكلمة التالية:
إن هذا المكان يختزل كل الأمكنة، وهو مكان ليس به شرق ولا غرب، وليس به شمال ولا جنوب، وهو مكان مفتوح كالسماء، وهو فضاء حر كالريح والهواء
أما أنا.. الحكواتي: الجوال، فماذا يمكن أن أقول لكم عني؟
أنا رجل من الناس.. رجل يختزل كل الرجال. من قبل كنت طفلا، وإلي اليوم مازالت طفلا، وسأبقي طفلا إلي ما شاء الله، ومن كل الأمراض لا أخشي إلا مرضا واحدا، والذي هو مرض الشيخوخة، وقانا الله وإياكم من هذا المرض الخبيث.. (صمت)
أنا حكواتي، وصناعتي هي أن أتكلم دائما، وأن أتقن فن الحكي والكلام، وإنني وفي لجدتي الحكواتي:ة الأولي، والتي قالت لي يوما.. اسمعوا ما قالت لي:
صوت خارجي: ارفع صوتك عاليا وتكلم.. تكلم يا ولدي إذا كان لك كلام أبلغ من الصمت، وإلا.. فلذ بالصمت الناطق، ودع مولانا الصمت وحده يتكلم، وبلاغة الصمت أحيانا ليس كمثلها شيء..
الــــحـكواتــي: مهنة الحكي مخيفة ومرعبة يا جدتي..
الحكي ليس مهنة، لأنه ظل الوجود وظل الحياة يا ولدي.. (صمت) احرص علي أن تكون أنت هو أنت وألا تكون غيرك، قل دائما ما تؤمن به وآمن بما تقوله، وافعل ما تفكر فيه وفكر في كل ما تفعله، وكن صادقا في القول والفعل، وفي الحلم والوهم، وتحدث إلي الناس بلغة الناس في كل ما يهم الناس..
الــــحـكواتــي: كان هذا صوت جدتي شهرزاد الأولي، االمرأة التي قهرت الطغيان بسحر الكلام، واالتي علمت الإنسان بأنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الكلام..
إخوتي
انتهي النفس الأول.. وهذا الكلام هو أول الكلام، ألقاكم بعد الفاصل .. فابقوا معي .. (يخرج .. ظلام وموسيقي)
2 -خيمة بحجم الدنيا..
(تعود الإضاءة.. يدخل الحكواتي: من جديد وهو بنفس زيه الأول، يدفع مشجبا متحركا علقت عليه بعض الأزياء المسرحية)
الحكواتــــــي: هذا مساء يوم آخر، من نفس عمر هذا الاحتفال المسرحي..
انظروا.. هو مساء يوم تضيئه مصابيح النجوم التي في السماء
وتضيئه الأعمدة الكهربائية التي في الأرض
ويضيئه بعض نجوم الفن الجميل.. من أمثال حضرتنا..
نعم، هو يوم يشبه كل الأيام، ويختلف عن كل الأيام.. يشبهها في أشياء،
ويختلف عنها في أشياء، وسبحان مبدل الأشياء، وسبحان مبدل الليالي والأيام..
إخوتي.. لقد عدت إليكم، ومعي هذه المرة حكاية جديدة، ومع هذه الحكاية شخصيات مسرحية حية، ولقد وفرت لها عدة الشغل كما ترون، انظروا، هذه هي ملابسها التي سوف تحتاج إليها لاحقا، لقد أخرجت من خيالي رسوما، وأعطيتها أسماء، وسوف ألبسها هذه الأزياء حتي تكون كما تشاء.. كما تشاء هي، أو كما أشاء أنا، أ و كما تشاء هذه المسرحية؟
لست أدري.. واالله لست أدري..
أنا حكواتي حقا، ولكنني لست بطل حكاياتي، ومهمتي هي أن أحكي وأروي، وأن أبقي بعيدا جدا، وأن أظل في الظل، أما دورها هي، وأعني شخصياتي، فهو أن تعيش حياتها، وأن ترسم مسارها.. تعيشه كما تشاء هي، أو كما يشاء لها مسار هذه الحياة المسرحية الغريبة؟
مرة أخري أقول لكم:
لست أدري.. ويسعدني أنني لا أدري كثيرا من الأشياء، خصوصا تلك التي لا ترضيني ولا تسعدني..
(يأخذ من المشجب زيا مسرحيا ويتأمله) صاحب هذا الزي هو بطلي في هذه الحكاية، وبطلي له مضاعفه الذي هو امتداده، وهو وجهه الآخر، وهو زيه وأقنعته، ولقد أتيت بهذه البطل من أدغال خيالي، ولقد روضته حتي أصبح مثل نسيم الصباح، نعم، هو نسيم عليل يأتي بعد أن كان من قبل عاصفة أو كان زوبعة، ولهذا فقد أعطيته الاسم الذي يليق به، وأسميته .. فعلا، أسميته نسيم الوسيم .. (موسيقي ترحيبية)
(وقع خطوات أنثوية تقترب) هس.. هذا هو.. الرجل الآخر .. نعم هذا هو.. وهذه هي خطواته الشاردة والحائرة في حارات هذه المدينة الواسعة وفي دروبها الضيقة.. (صمت)
آه .. تعرفون بلا شك، نحن في حر هذه المدن الخانقة نحتاج دائما إلي نسمة.. نسمة هواء بحجم امرأة حالمة أو بحجم ولد حالم.. أليس كذلك؟
هو الآن هناك، إنني أراه ولا يراني، أراه ضائعا وتائها في ساحة من ساحات هذه المدينة.. لقد قادته إليها قدماه وهو لا يدري.. وهذه الساحة هي غير كل تلك الساحات الأخري التي تعرفون.. (صمت)
تسألون أية ساحة؟
ساحة الحرية مثلا..
أو ساحة التحرير.
أو ساحة التغيير العجيبة..
أو الساحة الحمراء..
أو تلك الساحة التي كانت في يوم من الأيام خضراء
أو ساحة جامع الفنا في المدينة الحمراء ..(صمت)
تسألونني عن اسم هذه الساحة؟
اسمها يا سادة يا كرام ساحة الفرح .. وربما لأجل هذا الاسم الجميل جاءها الولد نسيم .. جاءها يبحث عن لحظة فرح .. (موسيقي السيرك.. تصفيق وتهليل وفرح طفولي)
تخيلوا معي.. في وسط هذه الساحة نصبت خيمة.. خيمة كبيرة جدا.. أكبر مما تتصورون وتتخيلون.. وهذه الخيمة الملونة والمضاءة، هي خيمة سيرك .. سيرك الفرح.. (موسيقي السيرك)
نعم.. هذا هو اسمه.. سيرك الفرح في ساحة الفرح.. في مدينة الفرح، في قارة الفرح، في عالم الفرح.. في دنيا الفرح ..
(يضحك) آه.. ليتني أكون صادقا يا إخوتي، وتكون بعض العناوين صادقة، وتكون كل الأسماء صادقة أيضا.. (صمت) مصيبة هذا العالم أنه لا يمكن أن يكون جميلا، بشكل كلي وحقيقي، إلا في الأحلام والأوهام، وفي الإعانات الإشهارية أيضا، وصناعة الإعلان والإعلام ليست صناعتي..
(وهو يتأمل الخيمة الوهمية بإعجاب واندهاش)
يمكنكم أن تسألوني ماذا بداخل هذه الخيمة.. فهذا من حقكم..
اسمعوا .. بداخل هذه الخيمة يا إخوتي أرواح وأجساد ونفوس حية.. وتحت أضوائها الكاشفة فنانون وبهلوانيون، وفي حلباتها الدائرية مهرجون بأزياء غريبة وعجيبة.. (صمت)
تسألون عن صناعتهم؟
صناعتهم الفرح.. نعم.. الفرح الصادق.. ويؤسفني أن أقول لكم، بأن هذه الصناعة اليوم هي من أندر الصناعات ومن أتعسها، وهي معرضة للانقراض.. ويحزنني أن يكون صناع الفرح أيضا معرضين للانقراض..
(يتعالي صوت ضحك الأطفال، ويتعالي صخبهم الطفولي) هل سمعتم؟ إنهم يضحكون.. يضحكون بصدق.. لأنهم أطفال، وليت كل الناس كانوا
مثلهم أطفالا، ولم يضيعوا زمنهم الحقيقي في زحمة هذه المدن الضائعة.. (صمت)
آه .. ما أجمل أن تكون سخيا، مثل سخاء أمنا الحياة، ومثل سخاء أختنا الأرض، وأن تتقن فن العطاء، وأن تجود بأعز ما يمكن أن يعطي.. (صمت)
بعض نجوم الفن يسألونني: ماذا يمكن أن نعطي ونحن لا نملك إلا أرواحنا؟
وأقول لهم.. أرواحنا يا أحبتي هي أعز ما يمكن أن يعطي، نعم، وهي أغلي ما يمكن أن يهدي.. (يصبح وقع الخطوات واضحا أكثر مما يدل علي أن صاحبها يقترب أكثر، ينظر باتجاه الكواليس في فرح، موسيقي بإيقاعات راقصة وأضواء بكل الألوان)
3 ــ مولد شخصية مسرحية اسمها..
(يدخل نسيم وهو رجل في جسد طفل، يخطو بخجل شديد)
نـســيــــم: يا الله .. أهذا هو أنت؟
الحكواتي: أتعرفني يا ولدي؟
نـســيــــم: ولا أعرف أحدا كما أعرفك أنت..
الحكواتي: آه.. مازال الخير في الدنيا إذن.. وأنا التي ظننت أن كل أحبابي نسوني..
نـســيــــم: أنت الحكواتي: الذي..
الحكواتي: نعم، أنا الحكواتي: الذي..
نـســيــــم: أنت التي أخرجتني من عالمي، وأدخلتني إلي عالم الناس..
الحكواتي: كلنا أخرجتنا الصدفة الحكيمة يا ولدي..
نـســيــــم: وأنت التي سميتني باسمي، وقلت لي كن نسيم..
الحكواتي: نعم، وها أنت الآن ـ ما شاء الله ـ نسمة رقيقة بين كل رفاقك وجيرانك وأخواتك النسمات..
نـســيــــم: وماذا تصنع نسمة صغيرة وعليلة في عالم العواصف والزوابع يا سيدتي الحكواتي؟
الحكواتي: تصنع الشيء الكثير، صدقني، فكل العواصف والزوابع عابرة وراحلة يا ولدي، وغدا سيتغير كل شيء، ولن يبقي علي هذه الأرض إلا أنت.. أنت وحدك ولا أحد سواك..
نـســيــــم: ما أنا إلا حلم من أحلامك يا سيدي، أنت صنعته، وأنت اقترحته علي الناس، لقد أخرجتني من الظلمة إلي النور، هكذا قلت لي، أتذكر هذا أم نسيته؟
الحكواتي: نعم أذكره يا ولدي، ومن كان حكواتيا مثلي لا يمكن أن ينسي ..
نـســيــــم: ولقد بحثت عن هذا النور يا سيدي، بحثت عنه في كل مكان وزمان، وما وجدته إلا في قلبي وروحي..
الحكواتي: لا أظنك تجهل أنني أنا من أوجدتك..
نسـيـــــم وليتك ما وجدتني يا سيدي ومولاي
الحكواتي: لقد أوجدتك من فراغ ومن عدم، وهذا ـ لو تعلم ـ ليس بالأمر الهين..
نـســيــــم: آه.. الوجود الحافي وحده لا يكفي..
الحكواتي: وماذا تطلب أكثر يا نسيم؟
نـســيــــم: ماذا أطلب؟ أطلب حريتي يا سيدي، فبهذه الحرية أكون، وبدونها لا يمكن أن أكون..
الحكواتي: هذا حقك في الوجود يا ولدي، وإنني أبارك طلبك هذا وأقول لك: كن من شئت، وافعل بحياتك ما تريد، وسر في الطريق الذي تختار، فأنت اليوم حر يا نسيم.. نعم، أنت حر مثل نسمة الصباح..
نـســيــــم: وأول شيء أريده هو أن أكون مثلك..
الحكواتي: تكون مثلي؟
نـســيــــم: نعم، وأن أتفوق عليك أيضا..
الحكواتي: الله يكثر خيرك..
نـســيــــم: وبغير هذا فإنه لا يمكن أن يكون لحريتي أي معني، وسأكون مجرد نسخة منك..
الحكواتي: ثق يا ولدي بأنه لا شيء يشغلني اليوم سوي أن يكون لوجودك معني، وأن يكون لحريتك معني..
نـســيــــم: أريد أن أكون حكواتيا يا سيدي، وأن أصنع لي شهرة تفوق شهرة جدتك شهرزاد..
الحكواتي: هذا طموح مشروع يا ولدي، وبالنسبة إلي، فإنه لا اعتراض لي عليه..
نـســيــــم: أريد أن أتعلم فن الحكي يا سيدي..
الحكواتي: تعلم..
نـســيــــم: وأن أتقن صناعة المحاكاة..
الحكواتي: وفقك الله..
نـســيــــم: وإنني واثق بأنني سأحدث ثورة كبيرة وخطيرة في عالم الحكي والمحاكاة، أليس هذا هو رأيك أنت أيضا؟
الحكواتي: (بلهجة ساخرة) أنا؟ هو نفس رأيي بلا شك..
نـســيــــم: وقبل كل هذا، فإنني أريد أن أتعلم الفن الأخطر يا سيدي..
الحكواتي: وما هو هذا الفن الأخطر؟
نـســيــــم: هو فن العيش الحق يا سيدي ومولاي..
الحكواتي: الآن فقط، قلت كلاما حكيما ومعقولا يا نسيم..
نـســيــــم: ينبغي أن أعيش حياتي كاملة غير منقوصة، من ألفها إلي يائها..
الحكواتي: ليس بعد الياء شيء، والياء آخر الحروف..
نـســيــــم: يا سبحان الله، كل شيء له نهاية ينتهي عندها.. حتي الحروف، وما رأيك لو أضيف أنا للحروف المعروفة حرفا جديدا؟
الحكواتي: أحيانا، الزيادة في الشيء نقصان يا ولدي، ولكل شيء حدود تحده، وكل ما يبتدئ اليوم، لابد أن ينتهي غدا..
نـســيــــم: سبحان الله، أخبرني أيها الحكواتي: الحكيم، في أية مدرسة يمكن أن أتعلم فن العيش؟
الحكواتي: في أية مدرسة؟ في مدرسة الحياة الابتدائية ..
نـســيــــم: أنا من طموحي يا سيدي أن أرتقي سلم الحياة والإبداع، وأن أصبح مهرجا ..
الحكواتي: حكواتي ومهرج أيضا؟ نعم الطموح يا ولدي..
نـســيــــم: مهرج كبير في سيرك كبير جدا..
الحكواتي: أنت؟
نـســيــــم: نعم أنا.. ومالي أنا؟ ألا أستحق أن أكون مهرجا محترما في عالم محترم؟
الحكواتي: فعلا أنت تستحق، ولكن هذا العالم، هو الذي لا يستحق اليوم أن يكون محترما..
نـســيــــم: وفي هذا السيرك، أريد أن أضحك بعض الناس علي حماقات كل الناس في عالم الناس..
الحكواتي: فعلا الإضحاك لم يعد اليوم سهلا، وأصبحت تجارة إبكاء الناس هي وحدها الرائجة..
نـســيــــم: أعرف.. هو فعل صعب في عالم كل ما فيه صعب، وحتي أنا ولد صعب، ولا شيء يستهويني إلا ركوب الصعاب.. إني أحب الحياة يا سيدي، وأكره كل أمراض الحياة، وأري أن الفرح في الحياة، هو وحده روح هذه الحياة، وإنني مقتنع بأن الضحك مثل الهواء،حق مشروع لكل الأحياء.. أعرف أن الحكواتي: الحقيقي هو أنت، وأنه بإمكانك أن تفعل بي ما تشاء..
الحكواتي: تأكد بأنني لن أفعل بك إلا ما يرضي الله، ويرضي الحق، ويرضي الجمال والكمال، ويرضي الأدب والفن، ويرضي العلم والفكر وصناعة العيد والاجتفال..
نـســيــــم: يا سيدي الحكواتي:، افعل بي كل ما تريد، فأنت صاحب الأمر والنهي في هذه الاحتفالية المسرحية، وكلمتك فيها هي العليا، ولك أن تنسبني إلي كل أرض، وأن تلحقني بأية مدينة تريد، وأعدك بأنني لن أعترض، وحق الله لن أعترض.. انسبني إلي كل مدن العالم، نعم كلها، باستثناء مدينة واحدة منها.. مدينة وحدة فقط..
الحكواتي: وما هي هذه المدينة الواحدة يا نسيم؟
نـســيــــم: ما هي هذه المدينة يا نسيم؟ من حقك ن تسألني.. هذه المدينة هي.. هي.. لساني لا يطاوعني يا سيدي.. هي .. مدينة حضرموت.. أطال الله عمري وعمرك وعمر القارئين والسامعين وعمر كل من قال آمين..
الحكواتي: آمين.. (يضحك) اللعنة عليك أيها المجنون الجبان..
نـســيــــم: نعم أنا مجنون، مجنون مفتون بالحياة يا سيدي ومولاي، تماما كما أنت عبقري مجنون، فأنا فنان، وأنت فنان، وأعرف أن الجنون فن من الفنون، أو هو أبو كل الفنون..
الحكواتي: لقد قلت حضرموت با نسيم.. ولكن هل تعرف هذه المدينة؟
نـســيــــم: أنا أعرفها؟ أعوذ بالله، هي الموت وأنا طالب حياة وكيف يمكن أن نلتقي يا سيدي؟
الحكواتي: ولكن، هي بالتأكيد تعرفك، تماما كما تعرفني أنا، وتعرف كل واحد منا، وتعرف كل الناس الأحياء في كل زمان ومكان..
نـســيــــم: وهذا ما يقلقني ويزعجني..
الحكواتي: ثق بأنني لن أنسبك إلي هذه المدينة يا نسيم، هل ارتحت الآن؟
نـســيــــم: نعم ارتحت، ولكن ليس كثيرا، وسأكون سعيدا لو تبحر بي في كل بحور الدنيا يا سيدي الحكواتي:، في البحر الأبيض، وفي البحر الأسود، وفي البحر الأحمر، وفي البحر الأزرق، وحتي في بحر الظلمات إذا شئت، ولكن فقط ارحمني من الإبحار في ذلك البحر الذي والذي..
الحكواتي: أي بحر يا نسيم؟
نـســيــــم: أي بحر؟ البحر الميت.. أطال الله عمري وعمرك وعمر القارئين والسامعين والمتفرجين وكل من قال آمين..
الحكواتي: آمين.. يا سبحان الله، ما أنت إلا شخصية مسرحية، ومع ذلك فإنك تخاف من الموت..
نـســيــــم: الموت يسري علي كل شيء، حتي علي الشجر والحجر، ثم إننا كلنا في هذا المسرح الكبير مجرد شخصيات مسرحية.. حتي أنت يا سيدي الحكواتي..
الحكواتي: حتي أنا؟
نـســيــــم: نعم، حتي أنت، وحتي هذا الكاتب الذي يكتبنا والذي يسمي.. يسمي .. يسمي.. نسيت اسمه.. ذكرني باسمه رجاء..
الحكواتي: اسمه عبد الكريم برشيد..
نـســيــــم: نعم، وغدا سيحاسبه الله حسابا عسيرا علي كل ما فعله بنا، وحتي أنت لك نصيب في بعض ذنوبه وجرائمه..
الحكواتي: ما أنا شخصية مسرحية مثلك يا ولدي..
نـســيــــم: اخبريني يا سيدي الحكواتي..، هل سمعت عن وجود سيرك كبير في ساحة المدينة الكبري؟
الحكواتي: نعم سمعت..
نـســيــــم: يقولون بأن به مهرج عبقري وحكيم، فهل تعرفه يا سيدي الحكواتي؟
الحكواتي: إنني لا أعرفه معرفة شخصية، ولكني سمعت عنه فقط..
نـســيــــم: ما أسعده.. هو اليوم موجود في هذه المدينة، ومن بعد، يعلم الله أين سيكون..
الحكواتي: ولا أحد يعلم غدا أين سيكون..
نـســيــــم: أقلت لا أحد؟ حتي أنت يا سيدي الحكواتي:؟
الحكواتي: حتي أنا..
نسـيــــــم: وحتي هذا المؤلف الذي اسمه؟
الحكواتي: نعم، حتي هذا المؤلف، وحتي كل المؤلفين في كل زمان ومكان..
نـســيــــم: يا سيدي الحكواتي.. إنني أريد أن أري هذا المهرج العبقري..
الحكواتي: لم تطلب المستحيل يا نسيم..
نـســيــــم: ليتني كنت ستطيع أن أطلب المستحيل يا سيدي، يقولون بأنه يضحك العبوس، وبأنه يشفي النفوس، وأريد أن أزوره في مقصورته في السيرك، حتي أتعلم منه، فما رأيك أنت؟
الحكواتي: أنا؟ ولماذا أنا؟ الرأي رأيك أنت يا صاحبي.. هل نسيت بأنك حر كالريح والهواء؟
نـســيــــم: آه.. وكيف أنسي؟
الحكواتي: إذن ماذا تنتظر؟ الطريق إلي السيرك من هنا..
نـســيــــم: قلت من هنا؟ إذن فسأهب أنا من هناك.. من الطريق الآخر، فهل لديك مانع؟
الحكواتي: أنا؟ أبدا لا..
نـســيــــم: الرأي رأيي أنا.. أنت الذي قلت هذا.. ولا تنس بأنني حر كالريح والهواء..
الحكواتي: إنني أعطيك ساعة .. ساعة واحدة وليس أكثر، فاذهب وعد إلي قبل أن تنقضي هذه الساعة.. هل سمعت؟
نـســيــــم: ساعة؟ وهل تكفي ساعة واحدة؟
الحكواتي: وهل هذا العمر كله إلا ساعة واحدة يا نسيم؟ اسمع.. عندما أقرع هذا الجرس الصغير، فمعني هذا أنني أدعوك إلي العودة حالا.. (صوت جرس صغير) هل فهمت؟
نـســيــــم: نعم فهمت.. نلتقي بعد ساعة يا سيدي..
الحكواتي: ساعة واحدة وليس أكثر.. (يخرج نسيم فيظلم المسرح كله)
4 ــ انتهي الحفل.. بدأ الحفل..
(تعود الإضاءة علي خيمة السيرك من الخارج ينطلق صوت خروج الأطفال من خيمة السيرك مما يدل علي أن الحفل انتهي.. يدخل نسيم، يبدو منبهرا بسحر ما يري يتحرك وكأن هناك من يدفعه من الأطفال.. يضحك سعيدا بما يسمع وما يري)
نـســـيـم: (بخيبة) لقد انتهي الحفل.. كان أن آتي قبل الآن.. ها هم الأطفال يخرجون.. إنكم تسمعون فرحهم بلا شك.. نعم.. للفرح صوت يا أصحابي.. صوت قد لا تسمعه بعض الآذان الصماء، ولكن يمكن أن تسمعه كل الأرواح الجميلة والنبيلة.. (يغمض عينيه)
أغمضوا أعينكم مثلي، وحاولوا أن تسمعوا هذه الأصوات الملائكية بأرواحكم، حقا .. هؤلاء الأطفال هم أحباب الله..
(يفتح عينيه، ويبدو منتشيا بسحر ما يراه)
يا الله.. لهذا الفرح لون أيضا، وهذا اللون النوراني قد لا تراه بعض العيون التي في الوجوه، ولكن يمكن أن تراه كل العيون التي في الصدور وفي النفوس.. (يتعالي صوت ضحك الأطفال)
لقد كانوا في الحفل يضحكون، وانتهي الحفل ومازالوا يضحكون، وسيذهبون إلي بيوتهم وهم يضحكون، وفي أحلامهم هذه الليلة سيضحكون، وفي أحلامهم في كل ليلة سيظلون يضحكون ويضحكون.. آه ما أسعدهم.. (صمت)
هذا الذي يخاطبكم هو صاحبكم نسيم.. هو أنا، وهذا الإحساس هو إحساسه، وكل هذا الكلام الذي سوف تسمعون هو كلامه..
انظروا إليه.. (مشيرا إلي نفسه) بعين الخيال طبعا، هو يشبهني وأنا أشبهه، حتي لكأننا توءم خرج من رحم واحد .. إنني أراه واقفا مثل نخلة، وهو عادة لا يكون إلا واقفا، وهو يخاف أن ينام، فيسلمه النوم إلي .. الموت.. أعوذ بالله.. أنا أقول الموت؟
إنني أحدثكم عنه، مع أنني أنا هو وهو أنا.. إنني أتدرب علي أن أصبح حكواتيا مثل صاحبي..
أنظروا.. هو الآن يتأمل هؤلاء الأطفال.. نعم، هو الآن مثلي.. يقول لنفسه نفس ما أقوله لنفسي، ونفس ما أقول لكم من كلام.. (صمت).. استمعوا إليه.. إنه يفكر بصوت مرتفع..
يا الله.. أين أنا؟
ومن مع من أنا؟
مع من أنا؟
لقد قادتني قدماي إلي هذه الساحة المدهشة، لأكتشف الفرح في ساحة الفرح، ولأجده مرسوما في هذه الوجوه الصغيرة.. لقد أدهشني صدق هذا الفرح، وأدهشني صدق هذا الضحك البريء.. (يتعالي صخب الأطفال) هو لا يشبه ذلك الضحك الآخر، ولا هذه المخلوقات الصغيرة تشبه تلك الكائنات الكبيرة والعالية والمتعالية..
(يتعالي صوت الضحك من جديد) يا الله.. هذا ضحك بلا لون.. فلا هو ضحك أبيض، مثل ضحك المتفائلين، ولا هو ضحك أسود، مثل ضحك المتشائمين، ولا هو ضحك أصفر، مثل ضحك المنافقين، ولا هو ضحك رمادي، مثل ضحك المتملقين والمجاملين.. (يتعالي صخب الأطفال)
ماذا أقول لكم أيها الأطفال؟
ليتني كنت معكم أنتم ولم أكن مع الآخرين، وليت عمري كان في مثل أعماركم، وليتني كنت أعرف كيف أضحككم، وكيف أضحك معكم، وكيف أستعيد ما ضاع مني، وأن أكون واحدا منكم..
لقد عاد الأطفال الصغار إلي بيوتهم.. اصطحبوا أولياءهم وعادوا من
حيث أتوا.. (صمت)
آه.. لقد أصبحت ساحة الفرح خاوية وصامتة وحزينة .. هي في صمتها الآن تقول كلاما كثيرا، فحالوا أن تسمعوه.. وإذا سمعتموه، حاولوا أن تفهموه، وإذا فهمتموه، حاولوا أن تنقلوه للغائبين ولكل الذين لم يسمعوه.. (صمت)
نسيم الوسيم مازال واقفا في مكانه..
إنه تفكر بصوت مرتفع..
بإمكانكم أن تسمعوا ما يقول..
يكفيكم شيء من الانتباه..
نــســـــيــــم يا الله .. من عساه يكون هذا الذي أضحك كل هؤلاء الأطفال؟ (يأتي صوت الحكواتي من بعيد جدا، وكأنه آت من أعماق نفسه)
الحكواتـــــي: أنت أيضا أضحكت بعض الناس.. ألا تذكر؟
نــــســـيــــم: (وهو يكلم الفراغ) هذا صوت سيدي الحكواتي.. نعم.. لقد أضحكتهم، ولكن هذا الضحك يا صاحبي مختلف.. مختلف روحا وشكلا.. بودي لو أعرف من يكون هذا الذي بيده مفاتيح الفرح الصادق.. أتعرفنه أنت أيها الحكواتي؟
الحكواتــــــي: نعم.. أعرفه.. ويمكن أن تعرفه أنت أيضا.. إنه موجود علي بعد
خطوات.. ادخل هذه الخيمة العجيبة، وستجدنه في مقصورته.. ادخل..
نــــســـيــــم: نعم.. سأدخل.. ولكن.. من أين أدخل؟
الحكواتـــــي: من أين؟ من الباب طبعا..
نــــســـيــــم: وأين هو الباب؟ هذه الخيمة يا صاحبي ليس لها باب، وليس عليها بواب..
الحكواتــــي: وهذا من حسن حظك.. ادخل..
نــــســـيــــم: وإذا دخلت.. هل سأعرف السر؟
الحكواتـــــي: أي سر؟
نــــســـيــــم: سر صناعة الفرح، وسر من يصنعه، وكيف يصنعه..
الحكواتـــــي: يا ولدي..صناعة الفرح لا تحتاج إلي سر..
نــــســـيــــم: هذا الزمن صعب وابن كلب، وصناعة الفرح فيه قد تحتاج إلي معجزة حقيقية.. معجزة ربانية خارقة..
(وقع خطوات، يسر بشكل ميمي في مكانه) انظر يا صاحبي الحكواتي، إنني أسير الآن في ممر طويل.. طويل جدا.. أتسمع هذه الأصوات؟ (أصوات بعض الحيوانات)
الحكواتــــي: نعم.. أسمعها.. هي أصوات حيوانات السيرك.. سر ولا تخف يا نسيم، سر ترعاك بركة جدتي شهرزاد الأولي، واعلم يا صاحبي أن هذه الحيوانات لا تؤذي أحدا..
نــــســـيــــم: إنني أتبين في هذه الأصوات صوت الأسد وصوت النمر وصوت القرد وصوت الفيل وصوت الدب و.. صوت الكلب أيضا..
الحكواتـــــي: (صوت خارجي يأتي من بعيد مصحوب بالصدي) وكيف وجدت الخيمة يا نسيم؟
نــــســـيــــم: ماذا أقول لك؟ وجدتها هادئة ودافئة وآمنة..
الحكواتـــــي: يا سبحان.. أتقول آمنة، وفيها كل هذه الحيوانات المتوحشة؟
نــــســـيــــم: هنا يكمن بعض السر يا صاحبي الحكواتي.. أن تعيشي مع الناس، ولا تجد الأنس، ولا تجد الأمان، وأن تدخل بيت الحيوانات، وأن تحس بشيء من الرضا وبشيء من الاطمئنان.. في هذه المدينة خطأ ما يا صاحبي.. وسأعلنها بأعلي صوتي.. (بصوت مرتفع) في هذه المدينة خطأ ما..
الحكواتــــي: أيكون معني هذا أن الخارج أكثر وحشية يا نسمة؟
نــــســـيــــم: لست أدري.. قد يكون أقل إنسانية ونحن لا ندري.. أخبرني يا سيدي الحكواتي، ألا يكون وجودي هو الخطأ؟
الحكواتــــي: قد يكون..
نــــســـيــــم: أكيد أنك قد جئت بي في الزمن الخطأ..
الحكواتــــي: ممكن جدا..
نــــســـيــــم: نعم، هو خطأ النسيم أن يكون نسيما في زمن العواصف والزوابع، وأن يكون حلما جميلا في زمن الكوابيس المخيفة والمرعبة.. يا الله، ما أقسي أن تعيش الوجود الخطأ، وأن تجد نفسك في المسرحية الخطأ، وأن يدركك زمن الخطأ..
الحكواتــــي: افعل شيئا يا نسيم وكفاك تفلسفا، أين أنت الآن؟
إنني أقف أمام مقصورة مهرج السيرك يا صاحبي الحكواتي..
الحكواتــــي: جميل .. جميل جدا.. لقد وصلت إذن.. حمدا لله علي سلامتك.. اطرق الباب إذن.. ماذا تنتظر؟
نــــســـيــــم: كيف أطرق الباب يا صاحبي؟ لقد قلت لك بأن هذه المقصورة العجيبة ليس لها باب..
الحكواتـــــي: ليس لها باب؟ لم أفهم..
نــــســـيــــم: ليس أمامي غير حجاب يا صاحبي.. حجاب من ثوب ملون بكل الألوان..
الحكواتـــــي: حجاب؟ ارفعه وادخل .. وقبل هذا، صفق بيديك لتعلن عن وجودك.. (تصفيق)
نــــســـيــــم: ألا تسمع ما أسمع أنا يا صاحبي الحكواتي؟
الحكواتــــي: وماذا تسمع أنت؟
عبد الكريم برشيد
(فضاء أسود مفتوح يوحي بخيمة سيرك مصابيح وأضواء وألوان ووجوه مرسومة لمهرجين تتدلي من فوق ستارات بيضاء شفافة تتشكل الستارات علي شكل خيمة بحجم الخشبة كلها عاكسات الضوء ترسم في الوسط حلبة دائرية مضاءة من خلف الكواليس تنبعث أصوات حياة أخري لا نراها نسمع أصوات الحيوانات، وأصوات الطيور، وأصوات فناني السيرك وعماله فجأة، يعم الصمت، وتقرع الطبول، إيذانا ببداية الحفل الفني يدخل رجل وهو في زي مروضي الأسود يصاحب دخوله بقعة ضوء متحركة ويستقبله التصفيق والهتاف وشيء من الصفير يمسك الرجل بيده سوطا، بضرب به في الهواء، وهو يدور داخل الحلبة المضاءة)
الحكواتــي: (وهو يخاطب مخلوقاته الوهمية) اصطفوا.. اصطفوا صفا واحدا.. الأطول في الخلف والقصير في الأمام .. اصطفوا قلت لكم، ألا تسمعون؟
آه، جميل. جميل جدا، والآن ارقصوا.. ارقصوا كما تشاءون، رقصا شرقيا أو غربيا لا يهم.. (موسيقي السيرك) نعم ، هكذا، ما أجملك أيتها المخلوقات الرائعة.. ارقصي يا صوري وكلماتي، ويا أحلامي وأوهامي.. جميل .. جميل جدا.. (تصفيق الجمهور الوهمي)
ردوا علي تحية الجمهور.. انحنوا بشكل جيد.. بدون مبالغة رجاء، نعم نعم، هكذا.. رائع.. رائع جدا..
(يلتفت إلي الجمهور الواقعي) عذرا.. هذا الكلام لم يكن لكم، ولكنه كان موجها لجمهوري الآخر، والذي لا أراه إلا أنا، أما أنتم، فإنني أقول لكم ما يلي، ورجاء أن تسمعوا، وأن تعوا جيدا ما سأقول لكم، انظروا إلي هذا الزي الذي لم أختره، نعم، هو زي مروضي الأسود.. (يضحك) لقد ارتديته لأنني لم أجد غيره في مخازن هذا المسرح، والذي هو الآن سيرك حتي احتفال آخر، وأعترف لكم بأنني لست مروض أسود، ولا حتي مروضة قطط أو أرانب.. (يضحك) وأكون سعيدا لو أنني أستطيع أن أكون مروض نفسي، وأن أروض هذه اللغة التي لا تسعفني دائما، وأن أروض فني الحقيقي، والذي هو فن القول الجميل وفن الحكي النبيل..
آه لو أستطيع أن أكون كما أشاء، وأن أجعل الحروف والكلمات والعبارات طيعة علي لساني، وأن أجعل الأسماء والأشياء طيعة بين يدي..
ورغم أن هذا السوط بيدي، فإنني أخافها، وحق الله إنني أخافها.. أخاف الكلمات الوحشية، وأخشي أن تفترسني الصور المرعبة، وأن تدمرني الأفكار المدمرة.. لهذا فإنني أحاول أن ألعب معها لعبة الأسود ومروض الأسود..
(من جديد يفرقع الصوت في الهواء) اصطفي أمامي أيتها الكلمات والعبارات والمشاهدات، اصطفي كما أريد، وتشكلي بالشكل الذي أشاء، وانتظمي في منظومة أقوال وأحوال، وكوني قصة وحكاية، وكوني مشهدا ورواية، كوني كما يأمر مولانا الجمال في دنيا الفن والخيال.. (يضرب بالسوط في الهواء.. تظهر في الخلف حروف تسقط من فوق، فيتعقبها الحكواتي: كما يتعقب الأطفال الفراشات) والآن، يا مخلوقاتي العجيبة، وبعد هذا الاستعراض الجميل، يمكنك أن تنصرفي، وأن تعودي من حيث جئت ..
رجاء صفقوا عليها مرة أخري .. (يتعالي التصفيق أكثر)
(للجمهور) من حقكم أن تسألوا الآن: من يكون هذا الرجل الذي يروض الخيال، والذي يشتغل بفقه الجمال، والذي يسافر بهذا الخيال إلي حدود المحال، والتي يبحث دائما عن الجلال وعن الكمال؟
هذا الرجل هو أنا، نعم، وما أنا إلا صانع بين الصناع..
صانع؟ تسألون صانع ماذا؟
صانع أحلام ومروض أحلام وتاجر أحلام وعالم أحلام في سيرك الأحلام.. (موسيقي السيرك) آه، نسيت أن أخبركم بأن هذا السيرك له اسمان: الأول هو سيرك الأحلام
والثاني؟
هو سيرك الأوهام..
وبين حد الأحلام وحد الأوهام أعيش أنا، وتعيش معي كل أسمائي ومخلوقاتي، وأكون سعيدا يا أحبتي لو أستطيع أن أقتسمها معكم، أقتسم معكم الأحلام والأوهام، وأقتسم الخيال والاحتفال..
أنا السيد الحكواتي:، وأنا فعل الحكي، وأنا كل الحكايات والروايات.. حكواتي من هذا الزمان، لقد ضاقت بي كل البنايات والساحات، ولم تسع أحلامي وأوهامي إلا هذه الخيمة الكبيرة، انظروا إليها، هي خيمة بسعة الوجود وبحجم الدنيا وبعمق الخيال اللامحدود (وهو ينصت إلي الجمهور)
آه.. تسألون.. هذا السيرك أين يقع؟
(يحك رأسه) أين يقع يا رأسي، أين يقع؟ اسعفيني يا كلماتي التي روضتها، أو خيل لي أنني روضتها..
آه.. وجدتها.. اسمعوا.. لن أقول لكم بأنه يقع في اللاموقع، وبأنه موجود في اللاوجود، وبأنه كائن في اللامكان.. كل هذا لن أقوله، ولكنني ـ مع ذلك ـ سأقول ما يشبهه..
(وهو يتأمل المكان حوله) إنني أعترف بأنه يصعب علي أن أحدد لكم حدود هذا المكان
ويصعب علي أن أعطيه اسمه ورسمه وعنوانه، وإنني أطلب منكم كلكم ـ دام فضلكم ـ أن تساعدوني، وأن تعطوا لهذا المكان الاسم الذي تريدون، وأن تمنحوه الرسم الذي تتخيلون، أما أنا، فإنه يكفيني أن أقول لكم الكلمة التالية:
إن هذا المكان يختزل كل الأمكنة، وهو مكان ليس به شرق ولا غرب، وليس به شمال ولا جنوب، وهو مكان مفتوح كالسماء، وهو فضاء حر كالريح والهواء
أما أنا.. الحكواتي: الجوال، فماذا يمكن أن أقول لكم عني؟
أنا رجل من الناس.. رجل يختزل كل الرجال. من قبل كنت طفلا، وإلي اليوم مازالت طفلا، وسأبقي طفلا إلي ما شاء الله، ومن كل الأمراض لا أخشي إلا مرضا واحدا، والذي هو مرض الشيخوخة، وقانا الله وإياكم من هذا المرض الخبيث.. (صمت)
أنا حكواتي، وصناعتي هي أن أتكلم دائما، وأن أتقن فن الحكي والكلام، وإنني وفي لجدتي الحكواتي:ة الأولي، والتي قالت لي يوما.. اسمعوا ما قالت لي:
صوت خارجي: ارفع صوتك عاليا وتكلم.. تكلم يا ولدي إذا كان لك كلام أبلغ من الصمت، وإلا.. فلذ بالصمت الناطق، ودع مولانا الصمت وحده يتكلم، وبلاغة الصمت أحيانا ليس كمثلها شيء..
الــــحـكواتــي: مهنة الحكي مخيفة ومرعبة يا جدتي..
الحكي ليس مهنة، لأنه ظل الوجود وظل الحياة يا ولدي.. (صمت) احرص علي أن تكون أنت هو أنت وألا تكون غيرك، قل دائما ما تؤمن به وآمن بما تقوله، وافعل ما تفكر فيه وفكر في كل ما تفعله، وكن صادقا في القول والفعل، وفي الحلم والوهم، وتحدث إلي الناس بلغة الناس في كل ما يهم الناس..
الــــحـكواتــي: كان هذا صوت جدتي شهرزاد الأولي، االمرأة التي قهرت الطغيان بسحر الكلام، واالتي علمت الإنسان بأنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الكلام..
إخوتي
انتهي النفس الأول.. وهذا الكلام هو أول الكلام، ألقاكم بعد الفاصل .. فابقوا معي .. (يخرج .. ظلام وموسيقي)
2 -خيمة بحجم الدنيا..
(تعود الإضاءة.. يدخل الحكواتي: من جديد وهو بنفس زيه الأول، يدفع مشجبا متحركا علقت عليه بعض الأزياء المسرحية)
الحكواتــــــي: هذا مساء يوم آخر، من نفس عمر هذا الاحتفال المسرحي..
انظروا.. هو مساء يوم تضيئه مصابيح النجوم التي في السماء
وتضيئه الأعمدة الكهربائية التي في الأرض
ويضيئه بعض نجوم الفن الجميل.. من أمثال حضرتنا..
نعم، هو يوم يشبه كل الأيام، ويختلف عن كل الأيام.. يشبهها في أشياء،
ويختلف عنها في أشياء، وسبحان مبدل الأشياء، وسبحان مبدل الليالي والأيام..
إخوتي.. لقد عدت إليكم، ومعي هذه المرة حكاية جديدة، ومع هذه الحكاية شخصيات مسرحية حية، ولقد وفرت لها عدة الشغل كما ترون، انظروا، هذه هي ملابسها التي سوف تحتاج إليها لاحقا، لقد أخرجت من خيالي رسوما، وأعطيتها أسماء، وسوف ألبسها هذه الأزياء حتي تكون كما تشاء.. كما تشاء هي، أو كما أشاء أنا، أ و كما تشاء هذه المسرحية؟
لست أدري.. واالله لست أدري..
أنا حكواتي حقا، ولكنني لست بطل حكاياتي، ومهمتي هي أن أحكي وأروي، وأن أبقي بعيدا جدا، وأن أظل في الظل، أما دورها هي، وأعني شخصياتي، فهو أن تعيش حياتها، وأن ترسم مسارها.. تعيشه كما تشاء هي، أو كما يشاء لها مسار هذه الحياة المسرحية الغريبة؟
مرة أخري أقول لكم:
لست أدري.. ويسعدني أنني لا أدري كثيرا من الأشياء، خصوصا تلك التي لا ترضيني ولا تسعدني..
(يأخذ من المشجب زيا مسرحيا ويتأمله) صاحب هذا الزي هو بطلي في هذه الحكاية، وبطلي له مضاعفه الذي هو امتداده، وهو وجهه الآخر، وهو زيه وأقنعته، ولقد أتيت بهذه البطل من أدغال خيالي، ولقد روضته حتي أصبح مثل نسيم الصباح، نعم، هو نسيم عليل يأتي بعد أن كان من قبل عاصفة أو كان زوبعة، ولهذا فقد أعطيته الاسم الذي يليق به، وأسميته .. فعلا، أسميته نسيم الوسيم .. (موسيقي ترحيبية)
(وقع خطوات أنثوية تقترب) هس.. هذا هو.. الرجل الآخر .. نعم هذا هو.. وهذه هي خطواته الشاردة والحائرة في حارات هذه المدينة الواسعة وفي دروبها الضيقة.. (صمت)
آه .. تعرفون بلا شك، نحن في حر هذه المدن الخانقة نحتاج دائما إلي نسمة.. نسمة هواء بحجم امرأة حالمة أو بحجم ولد حالم.. أليس كذلك؟
هو الآن هناك، إنني أراه ولا يراني، أراه ضائعا وتائها في ساحة من ساحات هذه المدينة.. لقد قادته إليها قدماه وهو لا يدري.. وهذه الساحة هي غير كل تلك الساحات الأخري التي تعرفون.. (صمت)
تسألون أية ساحة؟
ساحة الحرية مثلا..
أو ساحة التحرير.
أو ساحة التغيير العجيبة..
أو الساحة الحمراء..
أو تلك الساحة التي كانت في يوم من الأيام خضراء
أو ساحة جامع الفنا في المدينة الحمراء ..(صمت)
تسألونني عن اسم هذه الساحة؟
اسمها يا سادة يا كرام ساحة الفرح .. وربما لأجل هذا الاسم الجميل جاءها الولد نسيم .. جاءها يبحث عن لحظة فرح .. (موسيقي السيرك.. تصفيق وتهليل وفرح طفولي)
تخيلوا معي.. في وسط هذه الساحة نصبت خيمة.. خيمة كبيرة جدا.. أكبر مما تتصورون وتتخيلون.. وهذه الخيمة الملونة والمضاءة، هي خيمة سيرك .. سيرك الفرح.. (موسيقي السيرك)
نعم.. هذا هو اسمه.. سيرك الفرح في ساحة الفرح.. في مدينة الفرح، في قارة الفرح، في عالم الفرح.. في دنيا الفرح ..
(يضحك) آه.. ليتني أكون صادقا يا إخوتي، وتكون بعض العناوين صادقة، وتكون كل الأسماء صادقة أيضا.. (صمت) مصيبة هذا العالم أنه لا يمكن أن يكون جميلا، بشكل كلي وحقيقي، إلا في الأحلام والأوهام، وفي الإعانات الإشهارية أيضا، وصناعة الإعلان والإعلام ليست صناعتي..
(وهو يتأمل الخيمة الوهمية بإعجاب واندهاش)
يمكنكم أن تسألوني ماذا بداخل هذه الخيمة.. فهذا من حقكم..
اسمعوا .. بداخل هذه الخيمة يا إخوتي أرواح وأجساد ونفوس حية.. وتحت أضوائها الكاشفة فنانون وبهلوانيون، وفي حلباتها الدائرية مهرجون بأزياء غريبة وعجيبة.. (صمت)
تسألون عن صناعتهم؟
صناعتهم الفرح.. نعم.. الفرح الصادق.. ويؤسفني أن أقول لكم، بأن هذه الصناعة اليوم هي من أندر الصناعات ومن أتعسها، وهي معرضة للانقراض.. ويحزنني أن يكون صناع الفرح أيضا معرضين للانقراض..
(يتعالي صوت ضحك الأطفال، ويتعالي صخبهم الطفولي) هل سمعتم؟ إنهم يضحكون.. يضحكون بصدق.. لأنهم أطفال، وليت كل الناس كانوا
مثلهم أطفالا، ولم يضيعوا زمنهم الحقيقي في زحمة هذه المدن الضائعة.. (صمت)
آه .. ما أجمل أن تكون سخيا، مثل سخاء أمنا الحياة، ومثل سخاء أختنا الأرض، وأن تتقن فن العطاء، وأن تجود بأعز ما يمكن أن يعطي.. (صمت)
بعض نجوم الفن يسألونني: ماذا يمكن أن نعطي ونحن لا نملك إلا أرواحنا؟
وأقول لهم.. أرواحنا يا أحبتي هي أعز ما يمكن أن يعطي، نعم، وهي أغلي ما يمكن أن يهدي.. (يصبح وقع الخطوات واضحا أكثر مما يدل علي أن صاحبها يقترب أكثر، ينظر باتجاه الكواليس في فرح، موسيقي بإيقاعات راقصة وأضواء بكل الألوان)
3 ــ مولد شخصية مسرحية اسمها..
(يدخل نسيم وهو رجل في جسد طفل، يخطو بخجل شديد)
نـســيــــم: يا الله .. أهذا هو أنت؟
الحكواتي: أتعرفني يا ولدي؟
نـســيــــم: ولا أعرف أحدا كما أعرفك أنت..
الحكواتي: آه.. مازال الخير في الدنيا إذن.. وأنا التي ظننت أن كل أحبابي نسوني..
نـســيــــم: أنت الحكواتي: الذي..
الحكواتي: نعم، أنا الحكواتي: الذي..
نـســيــــم: أنت التي أخرجتني من عالمي، وأدخلتني إلي عالم الناس..
الحكواتي: كلنا أخرجتنا الصدفة الحكيمة يا ولدي..
نـســيــــم: وأنت التي سميتني باسمي، وقلت لي كن نسيم..
الحكواتي: نعم، وها أنت الآن ـ ما شاء الله ـ نسمة رقيقة بين كل رفاقك وجيرانك وأخواتك النسمات..
نـســيــــم: وماذا تصنع نسمة صغيرة وعليلة في عالم العواصف والزوابع يا سيدتي الحكواتي؟
الحكواتي: تصنع الشيء الكثير، صدقني، فكل العواصف والزوابع عابرة وراحلة يا ولدي، وغدا سيتغير كل شيء، ولن يبقي علي هذه الأرض إلا أنت.. أنت وحدك ولا أحد سواك..
نـســيــــم: ما أنا إلا حلم من أحلامك يا سيدي، أنت صنعته، وأنت اقترحته علي الناس، لقد أخرجتني من الظلمة إلي النور، هكذا قلت لي، أتذكر هذا أم نسيته؟
الحكواتي: نعم أذكره يا ولدي، ومن كان حكواتيا مثلي لا يمكن أن ينسي ..
نـســيــــم: ولقد بحثت عن هذا النور يا سيدي، بحثت عنه في كل مكان وزمان، وما وجدته إلا في قلبي وروحي..
الحكواتي: لا أظنك تجهل أنني أنا من أوجدتك..
نسـيـــــم وليتك ما وجدتني يا سيدي ومولاي
الحكواتي: لقد أوجدتك من فراغ ومن عدم، وهذا ـ لو تعلم ـ ليس بالأمر الهين..
نـســيــــم: آه.. الوجود الحافي وحده لا يكفي..
الحكواتي: وماذا تطلب أكثر يا نسيم؟
نـســيــــم: ماذا أطلب؟ أطلب حريتي يا سيدي، فبهذه الحرية أكون، وبدونها لا يمكن أن أكون..
الحكواتي: هذا حقك في الوجود يا ولدي، وإنني أبارك طلبك هذا وأقول لك: كن من شئت، وافعل بحياتك ما تريد، وسر في الطريق الذي تختار، فأنت اليوم حر يا نسيم.. نعم، أنت حر مثل نسمة الصباح..
نـســيــــم: وأول شيء أريده هو أن أكون مثلك..
الحكواتي: تكون مثلي؟
نـســيــــم: نعم، وأن أتفوق عليك أيضا..
الحكواتي: الله يكثر خيرك..
نـســيــــم: وبغير هذا فإنه لا يمكن أن يكون لحريتي أي معني، وسأكون مجرد نسخة منك..
الحكواتي: ثق يا ولدي بأنه لا شيء يشغلني اليوم سوي أن يكون لوجودك معني، وأن يكون لحريتك معني..
نـســيــــم: أريد أن أكون حكواتيا يا سيدي، وأن أصنع لي شهرة تفوق شهرة جدتك شهرزاد..
الحكواتي: هذا طموح مشروع يا ولدي، وبالنسبة إلي، فإنه لا اعتراض لي عليه..
نـســيــــم: أريد أن أتعلم فن الحكي يا سيدي..
الحكواتي: تعلم..
نـســيــــم: وأن أتقن صناعة المحاكاة..
الحكواتي: وفقك الله..
نـســيــــم: وإنني واثق بأنني سأحدث ثورة كبيرة وخطيرة في عالم الحكي والمحاكاة، أليس هذا هو رأيك أنت أيضا؟
الحكواتي: (بلهجة ساخرة) أنا؟ هو نفس رأيي بلا شك..
نـســيــــم: وقبل كل هذا، فإنني أريد أن أتعلم الفن الأخطر يا سيدي..
الحكواتي: وما هو هذا الفن الأخطر؟
نـســيــــم: هو فن العيش الحق يا سيدي ومولاي..
الحكواتي: الآن فقط، قلت كلاما حكيما ومعقولا يا نسيم..
نـســيــــم: ينبغي أن أعيش حياتي كاملة غير منقوصة، من ألفها إلي يائها..
الحكواتي: ليس بعد الياء شيء، والياء آخر الحروف..
نـســيــــم: يا سبحان الله، كل شيء له نهاية ينتهي عندها.. حتي الحروف، وما رأيك لو أضيف أنا للحروف المعروفة حرفا جديدا؟
الحكواتي: أحيانا، الزيادة في الشيء نقصان يا ولدي، ولكل شيء حدود تحده، وكل ما يبتدئ اليوم، لابد أن ينتهي غدا..
نـســيــــم: سبحان الله، أخبرني أيها الحكواتي: الحكيم، في أية مدرسة يمكن أن أتعلم فن العيش؟
الحكواتي: في أية مدرسة؟ في مدرسة الحياة الابتدائية ..
نـســيــــم: أنا من طموحي يا سيدي أن أرتقي سلم الحياة والإبداع، وأن أصبح مهرجا ..
الحكواتي: حكواتي ومهرج أيضا؟ نعم الطموح يا ولدي..
نـســيــــم: مهرج كبير في سيرك كبير جدا..
الحكواتي: أنت؟
نـســيــــم: نعم أنا.. ومالي أنا؟ ألا أستحق أن أكون مهرجا محترما في عالم محترم؟
الحكواتي: فعلا أنت تستحق، ولكن هذا العالم، هو الذي لا يستحق اليوم أن يكون محترما..
نـســيــــم: وفي هذا السيرك، أريد أن أضحك بعض الناس علي حماقات كل الناس في عالم الناس..
الحكواتي: فعلا الإضحاك لم يعد اليوم سهلا، وأصبحت تجارة إبكاء الناس هي وحدها الرائجة..
نـســيــــم: أعرف.. هو فعل صعب في عالم كل ما فيه صعب، وحتي أنا ولد صعب، ولا شيء يستهويني إلا ركوب الصعاب.. إني أحب الحياة يا سيدي، وأكره كل أمراض الحياة، وأري أن الفرح في الحياة، هو وحده روح هذه الحياة، وإنني مقتنع بأن الضحك مثل الهواء،حق مشروع لكل الأحياء.. أعرف أن الحكواتي: الحقيقي هو أنت، وأنه بإمكانك أن تفعل بي ما تشاء..
الحكواتي: تأكد بأنني لن أفعل بك إلا ما يرضي الله، ويرضي الحق، ويرضي الجمال والكمال، ويرضي الأدب والفن، ويرضي العلم والفكر وصناعة العيد والاجتفال..
نـســيــــم: يا سيدي الحكواتي:، افعل بي كل ما تريد، فأنت صاحب الأمر والنهي في هذه الاحتفالية المسرحية، وكلمتك فيها هي العليا، ولك أن تنسبني إلي كل أرض، وأن تلحقني بأية مدينة تريد، وأعدك بأنني لن أعترض، وحق الله لن أعترض.. انسبني إلي كل مدن العالم، نعم كلها، باستثناء مدينة واحدة منها.. مدينة وحدة فقط..
الحكواتي: وما هي هذه المدينة الواحدة يا نسيم؟
نـســيــــم: ما هي هذه المدينة يا نسيم؟ من حقك ن تسألني.. هذه المدينة هي.. هي.. لساني لا يطاوعني يا سيدي.. هي .. مدينة حضرموت.. أطال الله عمري وعمرك وعمر القارئين والسامعين وعمر كل من قال آمين..
الحكواتي: آمين.. (يضحك) اللعنة عليك أيها المجنون الجبان..
نـســيــــم: نعم أنا مجنون، مجنون مفتون بالحياة يا سيدي ومولاي، تماما كما أنت عبقري مجنون، فأنا فنان، وأنت فنان، وأعرف أن الجنون فن من الفنون، أو هو أبو كل الفنون..
الحكواتي: لقد قلت حضرموت با نسيم.. ولكن هل تعرف هذه المدينة؟
نـســيــــم: أنا أعرفها؟ أعوذ بالله، هي الموت وأنا طالب حياة وكيف يمكن أن نلتقي يا سيدي؟
الحكواتي: ولكن، هي بالتأكيد تعرفك، تماما كما تعرفني أنا، وتعرف كل واحد منا، وتعرف كل الناس الأحياء في كل زمان ومكان..
نـســيــــم: وهذا ما يقلقني ويزعجني..
الحكواتي: ثق بأنني لن أنسبك إلي هذه المدينة يا نسيم، هل ارتحت الآن؟
نـســيــــم: نعم ارتحت، ولكن ليس كثيرا، وسأكون سعيدا لو تبحر بي في كل بحور الدنيا يا سيدي الحكواتي:، في البحر الأبيض، وفي البحر الأسود، وفي البحر الأحمر، وفي البحر الأزرق، وحتي في بحر الظلمات إذا شئت، ولكن فقط ارحمني من الإبحار في ذلك البحر الذي والذي..
الحكواتي: أي بحر يا نسيم؟
نـســيــــم: أي بحر؟ البحر الميت.. أطال الله عمري وعمرك وعمر القارئين والسامعين والمتفرجين وكل من قال آمين..
الحكواتي: آمين.. يا سبحان الله، ما أنت إلا شخصية مسرحية، ومع ذلك فإنك تخاف من الموت..
نـســيــــم: الموت يسري علي كل شيء، حتي علي الشجر والحجر، ثم إننا كلنا في هذا المسرح الكبير مجرد شخصيات مسرحية.. حتي أنت يا سيدي الحكواتي..
الحكواتي: حتي أنا؟
نـســيــــم: نعم، حتي أنت، وحتي هذا الكاتب الذي يكتبنا والذي يسمي.. يسمي .. يسمي.. نسيت اسمه.. ذكرني باسمه رجاء..
الحكواتي: اسمه عبد الكريم برشيد..
نـســيــــم: نعم، وغدا سيحاسبه الله حسابا عسيرا علي كل ما فعله بنا، وحتي أنت لك نصيب في بعض ذنوبه وجرائمه..
الحكواتي: ما أنا شخصية مسرحية مثلك يا ولدي..
نـســيــــم: اخبريني يا سيدي الحكواتي..، هل سمعت عن وجود سيرك كبير في ساحة المدينة الكبري؟
الحكواتي: نعم سمعت..
نـســيــــم: يقولون بأن به مهرج عبقري وحكيم، فهل تعرفه يا سيدي الحكواتي؟
الحكواتي: إنني لا أعرفه معرفة شخصية، ولكني سمعت عنه فقط..
نـســيــــم: ما أسعده.. هو اليوم موجود في هذه المدينة، ومن بعد، يعلم الله أين سيكون..
الحكواتي: ولا أحد يعلم غدا أين سيكون..
نـســيــــم: أقلت لا أحد؟ حتي أنت يا سيدي الحكواتي:؟
الحكواتي: حتي أنا..
نسـيــــــم: وحتي هذا المؤلف الذي اسمه؟
الحكواتي: نعم، حتي هذا المؤلف، وحتي كل المؤلفين في كل زمان ومكان..
نـســيــــم: يا سيدي الحكواتي.. إنني أريد أن أري هذا المهرج العبقري..
الحكواتي: لم تطلب المستحيل يا نسيم..
نـســيــــم: ليتني كنت ستطيع أن أطلب المستحيل يا سيدي، يقولون بأنه يضحك العبوس، وبأنه يشفي النفوس، وأريد أن أزوره في مقصورته في السيرك، حتي أتعلم منه، فما رأيك أنت؟
الحكواتي: أنا؟ ولماذا أنا؟ الرأي رأيك أنت يا صاحبي.. هل نسيت بأنك حر كالريح والهواء؟
نـســيــــم: آه.. وكيف أنسي؟
الحكواتي: إذن ماذا تنتظر؟ الطريق إلي السيرك من هنا..
نـســيــــم: قلت من هنا؟ إذن فسأهب أنا من هناك.. من الطريق الآخر، فهل لديك مانع؟
الحكواتي: أنا؟ أبدا لا..
نـســيــــم: الرأي رأيي أنا.. أنت الذي قلت هذا.. ولا تنس بأنني حر كالريح والهواء..
الحكواتي: إنني أعطيك ساعة .. ساعة واحدة وليس أكثر، فاذهب وعد إلي قبل أن تنقضي هذه الساعة.. هل سمعت؟
نـســيــــم: ساعة؟ وهل تكفي ساعة واحدة؟
الحكواتي: وهل هذا العمر كله إلا ساعة واحدة يا نسيم؟ اسمع.. عندما أقرع هذا الجرس الصغير، فمعني هذا أنني أدعوك إلي العودة حالا.. (صوت جرس صغير) هل فهمت؟
نـســيــــم: نعم فهمت.. نلتقي بعد ساعة يا سيدي..
الحكواتي: ساعة واحدة وليس أكثر.. (يخرج نسيم فيظلم المسرح كله)
4 ــ انتهي الحفل.. بدأ الحفل..
(تعود الإضاءة علي خيمة السيرك من الخارج ينطلق صوت خروج الأطفال من خيمة السيرك مما يدل علي أن الحفل انتهي.. يدخل نسيم، يبدو منبهرا بسحر ما يري يتحرك وكأن هناك من يدفعه من الأطفال.. يضحك سعيدا بما يسمع وما يري)
نـســـيـم: (بخيبة) لقد انتهي الحفل.. كان أن آتي قبل الآن.. ها هم الأطفال يخرجون.. إنكم تسمعون فرحهم بلا شك.. نعم.. للفرح صوت يا أصحابي.. صوت قد لا تسمعه بعض الآذان الصماء، ولكن يمكن أن تسمعه كل الأرواح الجميلة والنبيلة.. (يغمض عينيه)
أغمضوا أعينكم مثلي، وحاولوا أن تسمعوا هذه الأصوات الملائكية بأرواحكم، حقا .. هؤلاء الأطفال هم أحباب الله..
(يفتح عينيه، ويبدو منتشيا بسحر ما يراه)
يا الله.. لهذا الفرح لون أيضا، وهذا اللون النوراني قد لا تراه بعض العيون التي في الوجوه، ولكن يمكن أن تراه كل العيون التي في الصدور وفي النفوس.. (يتعالي صوت ضحك الأطفال)
لقد كانوا في الحفل يضحكون، وانتهي الحفل ومازالوا يضحكون، وسيذهبون إلي بيوتهم وهم يضحكون، وفي أحلامهم هذه الليلة سيضحكون، وفي أحلامهم في كل ليلة سيظلون يضحكون ويضحكون.. آه ما أسعدهم.. (صمت)
هذا الذي يخاطبكم هو صاحبكم نسيم.. هو أنا، وهذا الإحساس هو إحساسه، وكل هذا الكلام الذي سوف تسمعون هو كلامه..
انظروا إليه.. (مشيرا إلي نفسه) بعين الخيال طبعا، هو يشبهني وأنا أشبهه، حتي لكأننا توءم خرج من رحم واحد .. إنني أراه واقفا مثل نخلة، وهو عادة لا يكون إلا واقفا، وهو يخاف أن ينام، فيسلمه النوم إلي .. الموت.. أعوذ بالله.. أنا أقول الموت؟
إنني أحدثكم عنه، مع أنني أنا هو وهو أنا.. إنني أتدرب علي أن أصبح حكواتيا مثل صاحبي..
أنظروا.. هو الآن يتأمل هؤلاء الأطفال.. نعم، هو الآن مثلي.. يقول لنفسه نفس ما أقوله لنفسي، ونفس ما أقول لكم من كلام.. (صمت).. استمعوا إليه.. إنه يفكر بصوت مرتفع..
يا الله.. أين أنا؟
ومن مع من أنا؟
مع من أنا؟
لقد قادتني قدماي إلي هذه الساحة المدهشة، لأكتشف الفرح في ساحة الفرح، ولأجده مرسوما في هذه الوجوه الصغيرة.. لقد أدهشني صدق هذا الفرح، وأدهشني صدق هذا الضحك البريء.. (يتعالي صخب الأطفال) هو لا يشبه ذلك الضحك الآخر، ولا هذه المخلوقات الصغيرة تشبه تلك الكائنات الكبيرة والعالية والمتعالية..
(يتعالي صوت الضحك من جديد) يا الله.. هذا ضحك بلا لون.. فلا هو ضحك أبيض، مثل ضحك المتفائلين، ولا هو ضحك أسود، مثل ضحك المتشائمين، ولا هو ضحك أصفر، مثل ضحك المنافقين، ولا هو ضحك رمادي، مثل ضحك المتملقين والمجاملين.. (يتعالي صخب الأطفال)
ماذا أقول لكم أيها الأطفال؟
ليتني كنت معكم أنتم ولم أكن مع الآخرين، وليت عمري كان في مثل أعماركم، وليتني كنت أعرف كيف أضحككم، وكيف أضحك معكم، وكيف أستعيد ما ضاع مني، وأن أكون واحدا منكم..
لقد عاد الأطفال الصغار إلي بيوتهم.. اصطحبوا أولياءهم وعادوا من
حيث أتوا.. (صمت)
آه.. لقد أصبحت ساحة الفرح خاوية وصامتة وحزينة .. هي في صمتها الآن تقول كلاما كثيرا، فحالوا أن تسمعوه.. وإذا سمعتموه، حاولوا أن تفهموه، وإذا فهمتموه، حاولوا أن تنقلوه للغائبين ولكل الذين لم يسمعوه.. (صمت)
نسيم الوسيم مازال واقفا في مكانه..
إنه تفكر بصوت مرتفع..
بإمكانكم أن تسمعوا ما يقول..
يكفيكم شيء من الانتباه..
نــســـــيــــم يا الله .. من عساه يكون هذا الذي أضحك كل هؤلاء الأطفال؟ (يأتي صوت الحكواتي من بعيد جدا، وكأنه آت من أعماق نفسه)
الحكواتـــــي: أنت أيضا أضحكت بعض الناس.. ألا تذكر؟
نــــســـيــــم: (وهو يكلم الفراغ) هذا صوت سيدي الحكواتي.. نعم.. لقد أضحكتهم، ولكن هذا الضحك يا صاحبي مختلف.. مختلف روحا وشكلا.. بودي لو أعرف من يكون هذا الذي بيده مفاتيح الفرح الصادق.. أتعرفنه أنت أيها الحكواتي؟
الحكواتــــــي: نعم.. أعرفه.. ويمكن أن تعرفه أنت أيضا.. إنه موجود علي بعد
خطوات.. ادخل هذه الخيمة العجيبة، وستجدنه في مقصورته.. ادخل..
نــــســـيــــم: نعم.. سأدخل.. ولكن.. من أين أدخل؟
الحكواتـــــي: من أين؟ من الباب طبعا..
نــــســـيــــم: وأين هو الباب؟ هذه الخيمة يا صاحبي ليس لها باب، وليس عليها بواب..
الحكواتــــي: وهذا من حسن حظك.. ادخل..
نــــســـيــــم: وإذا دخلت.. هل سأعرف السر؟
الحكواتـــــي: أي سر؟
نــــســـيــــم: سر صناعة الفرح، وسر من يصنعه، وكيف يصنعه..
الحكواتـــــي: يا ولدي..صناعة الفرح لا تحتاج إلي سر..
نــــســـيــــم: هذا الزمن صعب وابن كلب، وصناعة الفرح فيه قد تحتاج إلي معجزة حقيقية.. معجزة ربانية خارقة..
(وقع خطوات، يسر بشكل ميمي في مكانه) انظر يا صاحبي الحكواتي، إنني أسير الآن في ممر طويل.. طويل جدا.. أتسمع هذه الأصوات؟ (أصوات بعض الحيوانات)
الحكواتــــي: نعم.. أسمعها.. هي أصوات حيوانات السيرك.. سر ولا تخف يا نسيم، سر ترعاك بركة جدتي شهرزاد الأولي، واعلم يا صاحبي أن هذه الحيوانات لا تؤذي أحدا..
نــــســـيــــم: إنني أتبين في هذه الأصوات صوت الأسد وصوت النمر وصوت القرد وصوت الفيل وصوت الدب و.. صوت الكلب أيضا..
الحكواتـــــي: (صوت خارجي يأتي من بعيد مصحوب بالصدي) وكيف وجدت الخيمة يا نسيم؟
نــــســـيــــم: ماذا أقول لك؟ وجدتها هادئة ودافئة وآمنة..
الحكواتـــــي: يا سبحان.. أتقول آمنة، وفيها كل هذه الحيوانات المتوحشة؟
نــــســـيــــم: هنا يكمن بعض السر يا صاحبي الحكواتي.. أن تعيشي مع الناس، ولا تجد الأنس، ولا تجد الأمان، وأن تدخل بيت الحيوانات، وأن تحس بشيء من الرضا وبشيء من الاطمئنان.. في هذه المدينة خطأ ما يا صاحبي.. وسأعلنها بأعلي صوتي.. (بصوت مرتفع) في هذه المدينة خطأ ما..
الحكواتــــي: أيكون معني هذا أن الخارج أكثر وحشية يا نسمة؟
نــــســـيــــم: لست أدري.. قد يكون أقل إنسانية ونحن لا ندري.. أخبرني يا سيدي الحكواتي، ألا يكون وجودي هو الخطأ؟
الحكواتــــي: قد يكون..
نــــســـيــــم: أكيد أنك قد جئت بي في الزمن الخطأ..
الحكواتــــي: ممكن جدا..
نــــســـيــــم: نعم، هو خطأ النسيم أن يكون نسيما في زمن العواصف والزوابع، وأن يكون حلما جميلا في زمن الكوابيس المخيفة والمرعبة.. يا الله، ما أقسي أن تعيش الوجود الخطأ، وأن تجد نفسك في المسرحية الخطأ، وأن يدركك زمن الخطأ..
الحكواتــــي: افعل شيئا يا نسيم وكفاك تفلسفا، أين أنت الآن؟
إنني أقف أمام مقصورة مهرج السيرك يا صاحبي الحكواتي..
الحكواتــــي: جميل .. جميل جدا.. لقد وصلت إذن.. حمدا لله علي سلامتك.. اطرق الباب إذن.. ماذا تنتظر؟
نــــســـيــــم: كيف أطرق الباب يا صاحبي؟ لقد قلت لك بأن هذه المقصورة العجيبة ليس لها باب..
الحكواتـــــي: ليس لها باب؟ لم أفهم..
نــــســـيــــم: ليس أمامي غير حجاب يا صاحبي.. حجاب من ثوب ملون بكل الألوان..
الحكواتـــــي: حجاب؟ ارفعه وادخل .. وقبل هذا، صفق بيديك لتعلن عن وجودك.. (تصفيق)
نــــســـيــــم: ألا تسمع ما أسمع أنا يا صاحبي الحكواتي؟
الحكواتــــي: وماذا تسمع أنت؟
عبد الكريم برشيد